قصة : غزة، في زمن الصمت.

الليل يوشك أن يغادر، والأرضُ جائعة، السماءُ ملبدة بالغيوم، ينظر لها طفل صغير، ناحل الجسد، عاري القدمين، يحتضن رغيفًا يابسًا كأنه كنز، تداعب تشققات الأرض قدمه…


بهمس يتدرع إلى الله دامع العين:
يا رب… يا سامع نداء الضعفاء
قالت أمي لي إنك أرسلت لعمر بن الخطاب سحابًا يركض خلفه … فهل يجيء إلينا يسقينا ويطعمنا؟
أنا جائع… وأمي نائمة منذ أمس ولم تستيقظ… قالت لي آخر ما قالت: “اصبر، فإن الله لا ينسى…”

أغلق الغلام عينيه فنزوت دمعة هربت إلى شفتيه اليابسة، استطعم مرها و غفى…

رأى رجلاً طويل القامة، كث اللحية، ملامحه كما وصفت له أمه، لكن عينيه دامعتان… يخطو على تراب غزة كأن الأرض تعرفه، وتفتح له الطريق.

اصابته دهشة قال وهو يعدو نحوه:
الفاروق؟ أمير المؤمنين؟

لا تقل “أمير المؤمنين“، بل قل عبد لله جئت لك كما رغبت

وضع الفاروق يده على رأس الغلام:

أيها الغلام، من سرق قمحكم؟
من باع زيتكم؟
من جعل السماء تصمت، والأرض تجف، والعرب ينامون على أرائكهم؟!

ثم نظر في الأفق، وجده مليئًا بملوك صامتين، وجيوشٍ من الذهب، ورجالٍ منشغلين بالبُنيان، لا بالإنسان.

عمر (صائحًا كمن ينادي يوم القيامة):
يا أمة محمد!
هل جاع الطفل حتى يرى الفاروق في منامه؟
هل ماتت الرحمة في قلوبكم؟
أما فيكم من يهبّ؟
أما فيكم من يغضب؟
أين أنتم من حديث رسول الله:
“ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع”؟

تقدم نحو الافق وخلفه الغلام ، يطرق أبواب الملوك بيده، فلا تُفتح، فينادي فيهم:

أنا عمر بن الخطاب، أعود من زمنٍ مضى لأحمل سيف العدل لا ليقاتل، بل ليوقظ.
افتحوا الأبواب، أو ارتعدوا، فإن دعوة طفل جائع قد تزلزل العروش!”

أنهم في ثبات عميق لا يسمعون لا يفقهون
قال الغلام وهو يقف خلف الفاروق باكيًا، فالتفت له وحمله بين ذراعيه، كأنه يحمل وجع أمة:
كيف ينامون هؤلاء القوم وانتم جوعى!
وهمس في أذنه:

لن أعود إلى قبري حتى أُشبعك، وأُقيم عدلًا.

استيقظ يوسف من حلمه، وعيناه دامعتان، قلبه يرتجف فرحًا بما رأى …
ما عاد ذلك الطفل الخائف، ولا هو الجائع الذي ينتظر صدقة.
كان في عينيه وهج رجل رآه واقفًا على باب السماء، يطرق أبواب الملوك ويوبّخهم.

خرج الغلام من بين حطام بيته يضرب بقدميه العاجزة الأرض القاحلة ينادي في الناس
كان هنا، الفاروق كان هنا.
ما كان حلمًا، أو إن كان، فهو أوضح من الحقيقة.

أدار وجهه نحو أطلال بيته، حيث ترقد أمه تحت غطاء ترابي لا شاهد عليه بعد أن أصابها الجوع فماتت، ثم ركض نحو البيوت المهدمة، نحو الأطفال، نحو الناس الصامتين.

صرخ فيهم ينادي بعزم
يا أهل غزة! الفاروق رجع!
سمع ندائي!
رأيته بعيني، حلف ألا يعود إلى قبره حتى يشبع جوعنا!

الناس من حوله يبتسمون بحزن، بعضهم يقول: مسكين الغلام
وبعضهم يطأطئ رأسه بقلة حيلة

لكن من بينهم، “رائد”، فتى في السادسة عشرة، فقد والده في القصف الأخير، مشى بخطى ثقيلة كأنه على حافة جبل، اقترب من يوسف وضعا يديه على رأسه:

وحتى لو رجع فيحتاج جيش وأمتنا صامته.
نحن جيشه بأذن الله.

قالها يوسف ومد يده الصغيرة إلى السماء
وأنا جندي! وأشار إلى رائد: وأنت جندي، نظر للأطفال الجائعة يحملون سطل فارغ في انتظار الطعام: وهم جنود…
أنا جندي لعمر بن الخطاب، حتى لو حافي القدمين، حتى لو كنت صغير.
ثم نظر إلى أحد الصحفيين حاملي كاميرات التصوير
أكتبوا عنّي:
يوسف، ابن غزة، رأى الفاروق… ورفض أن ينسى ما رأى
لا أملك إلا اسمي، ولا يحرسني إلا الله،
لا أرفع راية حزب، ولا أنتمي إلى دولة،

رأيتُ عمر بن الخطاب في منامي، متواضعًا، يمشي على رُكام بيوتنا، يبكي معنا، ويقول:

كيف ينام العرب وأنتم جياع؟

لهذا اقول … لا لأستعطف، بل لأُذكّر.
أذكّركم أن الأطفال لا يولدون سياسيين، لا يعرفون خرائط الحدود، لكنهم يحفظون شكل القذائف، وأسماء الشهداء.

أذكّركم أن أمي ماتت وهي تقول لي: اصبر، فإن الله لا ينسى

أذكّركم أن الخبز صار أمنية، والماء معركة، وأن الحصار لا يُرى في الأخبار، بل يُلمَس في بطوننا الخاوية.

أقول لأنكم صامتون، خائفون من قول الحق، لأن أحدا لا يبالي وينظر إلينا كأننا مشهد من فيلم طويل وممل.

لكننا لسنا مشهدًا، نحن المرآة، ومن يهرب من المرآة، لا يهرب من الحقيقة.

لهذا أعلن اليوم، من قلبي الصغير، من بيتي المهدوم، سأكمّل الطريق…
لا بالسيف، بل بالكلمة.
لا بالصرخة، بل بالثبات.

اسمعوني…
وإن لم تسمعوني، سيكبر صوتي في أولاد آخرين، سيخرج “عمر” جديد من كل حلم، ويعيد تذكيركم أن العدل لا يُدفَن، بل يُبعث، كلما نام الضمير.

غزة، في زمن الصمت.

About The Author

About Me

إيناس أحمد
More Posts

شاعرة وكاتبة 
لها تجارب في كتابة القصص القصيرة والشعر منها أطياف مزرعة المانجا و وقصة أنت بطلها و ديوان خيال وهمي وليه يا بنفسج تم النشر على منصة ريڤيو للنشر الالكتروني كما انني حظيت بفرصة نشر نوڤيلا بعد الرحيل مع إبداع للنشر الالكتروني
ولي قصة قصيرة أيضا بعنوان موطني نشرت ورقي مع دار ديوان العرب ضمن المجموعة القصصية أريج غزة

إيناس أحمد

شاعرة وكاتبة  لها تجارب في كتابة القصص القصيرة والشعر منها أطياف مزرعة المانجا و وقصة أنت بطلها و ديوان خيال وهمي وليه يا بنفسج تم النشر على منصة ريڤيو للنشر الالكتروني كما انني حظيت بفرصة نشر نوڤيلا بعد الرحيل مع إبداع للنشر الالكتروني ولي قصة قصيرة أيضا بعنوان موطني نشرت ورقي مع دار ديوان العرب ضمن المجموعة القصصية أريج غزة

Related Posts

سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(4)

الفصل الرابع  ” طقوس الحضور “ في الثالثة فجراً ، استيقظت ملك على صوت غير واضح من هاتفها ، رسالة صوتية ، مشوشة ، لا يظهر فيها سوى همسات متداخلة…

سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(3)

الفصل الثالث ” سجل الطقوس“ الأرشيف ليس مجرد مكان للملفات المهترئة  .. هو مقبرة للحقائق التي لم يرغب أحد في دفنها علناً . هناك .. في الطابق السفلي من مكتبة…

Comments (0)

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *