الفصل الرابع ” طقوس الحضور “

في الثالثة فجراً ، استيقظت ملك على صوت غير واضح من هاتفها ، رسالة صوتية ، مشوشة ، لا يظهر فيها سوى همسات متداخلة ، لكن في نهايتها …صوتٌ واضح لرجل
” أنتِ اخترتِ أن تري…إذن تعالي ، سنتذكر معاً “
ومع الرسالة خريطة إلكترونية ، نقطة حمراء وُضعت فوق موقع ما ، مستشفى سانت أديل النفسي ، الذي أًغلق منذ أكثر من خمس عشرة عاماً ، بعد فضيحة علاج بالصدمات الكهربائية .
لم تخبر أحداً ، ولا أخذت أحداً معها
وصلت إلى المكان مع شروق رمادي خافت ، الهواء حول المستشفى ساكن على نحو غير طبيعي ، البوابة مفتوحة كأنها كانت تنتظرها ، في الداخل على جدار مائل عند المدخل ، وجدت كتابات حديثة بخط يد واضح
” طقس الحضور الأول … النسيان “
تابعت خطواتها تنير طريقها بمصباح يدوي ، وصلت إلى غرفة العمليات القديمة ، وهناك …رأت على الأرض دائرة مرسومة بالفحم ، تتوسطها ساعة جيب مكسورة ، على الجدار أمامها مرآة كبيرة مشروخة ، وحين نظرت فيها ، رأت نفسها تقف ، لكن خلفها لم يكن هناك فراغ …بل شخص يرتدي معطفاً أسود ، واقفاً بثبات ، لا يظهر وجهه .
استدارت ….. لم يكن هناك أحد
لكن شيئاً سُجل على المرآة
” ما لم تتذكريه ..سيقتلك “
في الوقت ذاته ، كان حازم يتلقى بلاغاً عن جريمة جديدة ، جثة فتاة في العشرين ، وجدت في قاعة سينما مهجورة ، الغريب هذه المرة ، أن الضحية كانت ترتدي فستاناً قديم الطراز ، مزيناً بورود بيضاء . و على الشاشة الكبيرة ، وُجدت جملة معروضة بطريقة بدائية
” تأخرت يا كاتب الظلال “
أشار الطبيب إلى شيء في يد الضحية ، كارت قديم عليه اسم ” ملك عبد المجيد “
عادت ملك من المستشفي وهي ترتجف ، و على باب شقتها ، وجد ظرف جديد ، داخله صورة مطبوعة من كاميرا مراقبة ، الصورة تٌظهرها وهي تخرج من المستشفي قبل دقائق ، ومع الصورة ورقة صغيرة
” طقس الحضور الثاني … الاعتراف ، الموقع التالي بانتظارك “
في غرفة معتمة ، كان رُقيان يجلس أمام سبع صور على الحائط ، كل واحدة منهن وُجدت مغسولة ، ملفوفة بخيط ، ساكنة كما لو كن نائمات ….إلا واحدة
صورة لملك … لم تثبت بعد
قال وهو يخاطبها كأنها حاضرة
” أنتِ .. مختلفة لا تصرخين ولا تتهربين لكن …ستعتفين أليس كذلك ؟ وحين تفعلين ، ستفهمين لماذا غُسلت سبع مرات ، ولم تُمح الذكرى “
ثم أغلق دفتراً صغيراً يحمل عنواناً محفوراً
” الذين اختاروا أن يروا “
” تطهير”
الهواء مشبع برائحة شيء لم يُسمّ بعد ، كأن الغرفة التي دخلها حازم منذ لحظات لا تحتوي على أكسجين ، بل ذكريات قديمة متعفنة .
كان يقف داخل شقة مهجورة ، في حي السد العالي ، حيث عثروا على دفتر بعنوان
” طقوس الفصل” في أحد الأدراج ، ما أغضبه ليس الدفتر ، بل الملاحظة التي كُتبت في آخره بخط يد أنثوي
” ملك لم تكن وحدها ..كان حازم معهم “
صفحة كاملة مكرسة له ، صور قديمه له حين كان شاب حديثي التخرج ، يعمل في وحدة التفتيش على دور الرعاية ، بجانبها صورة من نفس دار الأيتام المحترقة ، و في الزاوية شاب يبدو كحازم … يبتسم .
همس حازم بينما كان قلبه يضرب بجنون
” كنت هناك ؟ .. مستحيل “
هل يمكن أن يكون قد التقى رُقيان من قبل ؟ هل نسيه ؟ أو نسي من يكون هو ذاته ؟
في مكان آخر ، في منزل ريفي بعيد عن المدينة ، كانت ملك تجلس على كرسي في غرفة بلا نوافذ ، أمامها شاشة تعرض بثاً مباشراً ..لكنها لا تعرف من أين
تظهر فيه فتاة مربوطة على طاولة ، تتنفس ببطء ، محاطة بشموع حمراء ، و صوت رُقيان يُسمع من مكبر خافت
” التطهير يبدأ حين تتذكر الخطيئة الأولى، في حالتك يا ملك ، لم تكن الكتابة هي الجريمة .. بل الصمت بعدها ”
ثم ظهر أمام الكاميرا ، وجهه لم يكن واضحاً ، لكن عيناه تحدقان بها من خلال الشاشة
” تفضلي القرار الآن بيدك … أنقذي الفتاة أو شاهديها وهي تُغسل من خطيئتك “
، صرخت ملك ، ضربت الباب …عبثاً
في اللحظة التالية ، خرج من الحائط درج خشبي صغير فيه ظرف ، داخله صورة لطفلة تجلس على درجات دار الأيتام ، تبكي ، وفي حضنها ولد صغير … رُقيان
و خلف الصورة مكتوب ” وعدت أن لا تتركيني “
في غرفة القيادة ، كان حازم يراجع تسجيلات قديمة من حادث دار الأيتام ، طلب فتح ملف لم يُسمح له بمراجعته من قبل ، الفيديو يظهر مشهداً صادماً
طفل يبكي في الزاوية – رُقيان – ثم دخل شاب من الأمن يحاول إسكات الطفل بعنف ، تدخل شخصاً ما ليبعد الحارس عن الطفل ، كان ذلك الشخص هو حازم نفسه ، الذي أخذه في حضنه ، يهدئه ، ويعده
” لن أتركك وحدك أبداً “
سقط حازم على الكرسي من هول ما رأي ، كل شيء عاد فجأة ، كان يعرفه ، هو من سلمه للعالم ….ثم نسي .
بينما تسيل دموع ملك ، وهي تري الشموع تشتعل حول الفتاة ، يفتح الباب فجأة و يدخل حازم يصرخ
” رُقيان …توقف “
وقف رُقيان خلف الطاولة ، ثابتاً لا يرتجف ،ينظر إلى حازم كما ينظر طفل إلى والده الغائب
” أتيت اخيراً…”
قالها رُقيان بنفاذ صبر
” كنت بحاجة فقط أن تتذكر ، يا حازم … أن تعترف أنت أولاً ، أنك رأيت .. وسكت ، وعدت …و نكثت “
اشهر حازم سلاحه في وجهه بحزم ، لكن رُقيان فتح ذراعيه كأنما يقول أقتلني و اغفر لنفسك ، لكن صرخات ملك من الغرفة المجاورة كانت مسموعة لهم ، تنادي حازم مرددة
” لا تفعل .. إن قتلته ستكمل طقسه ، هو لا يريد النجاة .. بل الخاتمة ، هو لا يريدنا أن نعيش ، بل أن نحمل الخطأ للأبد ….. حازم لا تفعل “
عم الصمت المكان للحظات …
رُقيان يقف مبتسماً بوجه حازم ينتظر الرصاصة لكنه لم يفعل .
حاول حازم مساعدة الفتاة المقيدة ، ثم وجد باب الغرفة وأخرج ملك منها ، نظر لهم رُقيان ….. وهو يبتسم قائلا
” لم تختاروا الطريق السهل …يالاسف “
ثم بهدوء ، رفع الخيط الأحمر و أغلق عينيه بنفسه
” أظنني نظيفاً الأن “
قالها وهو يغرز شيئا ما في عنقه ، دماء قليلة … وجه ساكن …نهاية طقسية …
—————
لكن هناك أشياء إن بدأت لا تنتهي ….
بعد أسبوع وصل لحازم رسالة بداخلها خيط أحمر ، مع ملاحظة
” الذين يحملون …. لا ينسون أبداً “