الفصل الثالث ” سجل الطقوس“

الأرشيف ليس مجرد مكان للملفات المهترئة .. هو مقبرة للحقائق التي لم يرغب أحد في دفنها علناً .
هناك .. في الطابق السفلي من مكتبة المدينة ، جلست ملك وسط غبار و وثائق مغلقة بشمع أحمر ، تبحث عن اسم يتكرر في كوابيسها .. رُقيان ، لكنها لم تجد اسماً مدنياً ، ولا شهادة ميلاد ، ولا سجل طبي ، بل وجدت شيئاً آخر .
كتاباً بخط اليد غير مفهرس ، بعنوان ” أجساد مؤهلة للفصل “ غلافه الجلدي كان مشقوقاً ، تنبعث منه رائحة قديمة ، تشبه الرماد المبلل ، ترددت قبل أن تفتحه
في الصفحة الأولى ، كُتب
” من أراد النقاء ، فليعرف .. الجسد خزان للخطايا ، والنفس لا تصعد إلا إذا فُكّت عُقدتها عن الجسد الملوث “
قلبت الصفحات بخفة ، حتى وصلت إلى قسم بعنوان ” ماء و خيط “
طقس الفصل الثالث عشر
يبدأ الغُسل بالماء المثلج ، ويُنظّف الجسد بيد المقرّب ، ثم يُلف الخيط الأحمر حول موضع الذنب
عنق.. معصم أو قدم ، حسب موضع الخيانة ، ثم تُتلى كلمات التطهير ، وتُغلق العينان ، و يُسحب النفس الأخير برضا ، فإن تقبّل ..صعدت ، وإن قاومت .. تعفّنت “
لم تستطع ملك الإستمرار في القراءة ، شعرت بشيء يراقبها من وراء الكتب ، لكن حين التفتت ، لم تجد أحداً .
في مكتب التحقيقات ، كان حازم يراجع المكالمات الواردة على هاتف الضحية الأخيرة ، مكالمة مجهولة جاءت في الساعة 2:45 صباحاً ، أي قبل وفاتها بساعة واحدة ، الصوت لم يكن واضحاً ، لكنه التُقط في الخلفية صوت غريب ..كأن شخصاً يهمس بصيغة ترانيم .
استعان بخبير لغات قديمة ، أكد أن الكلمات هي صيغة ممزوجة من آرمية و عربية قديمة ، تستخدم في “نصوص التطهير الروحي “
هذا الرجل لا يقتل بدافع الغضب .. بل يعتقد أنه ينقظهن ..
في تلك الليلة وبينما كانت ملك تُدون ملاحظتها على السرير ، انقطعت الكهرباء
لم تهتم أول الأمر ، لكنها حين فتحت المصباح اليدوي ، رأت على جدار غرفتها شيء لم يكن موجوداً من قبل … علامة حمراء مرسومة بخفة ، كأن أحدهم استخدم إصبعه .. دائرة تتوسطها نقطة .
تجمدت في مكانها ، أدركت أن القاتل دخل غرفتها ليس في الأمس .. بل الليلة ، أسرعت إلى الهاتف و اتصلت بحازم ، قالت بصوت لاهث
” إنه ليس بعيدا ً ، حازم ..إنه يلعب معي ، كأنه يريدني أن أفهم قبل أن يختارني “
رد حازم
” ربما انت لست صحفية فقط بالنسبة له ، ربما أنت أحد مفاتيحه “
وفي مكان ما ، داخل قبو لا تصله الشمس ، جلس رُقيان أمام فتاة فاقدة الوعي
كان يرش الماء على جسدها ، بهدوء مريب ، كأنه يمارس طقساً مقدساً ، همس لها
” لا تخافي .. لن تشعري بشيء ، فقط تذكّري ما قالوه لكِ عندما كنت صغيرة …أن الألم لا يُغفر ، إلا إذا قُدم قرباناً “
ثم رفع الخيط الأحمر ، وبدأ يلفه حول معصمها ، وهو يتمتم كلمات بلغة لا تُشبه أي لغة ، كأنها صدى ما قبل الوجود .
و عند الزاوية كانت هناك مرآة وفيها ..لم يكن يظهر شيء سوى الفتاة و الخيط ، هو نفسه لم يكن له انعكاس …
” دار النسيان “
الطريق إلى دار الأيتام المحترقة كان طويلاً ، متعرجاً ، يمر بين أراضٍ خالية من الحياة ، السماء ملبدة ، والريح تعوي ككلب مريض فقد أثر صاحبه منذ زمن .
أوقف حازم السيارة عند مدخل المبنى ، أو ما تبقى منه ، ” دار النسيان الخيرية ”
لوحة نصف محترقة تتدلى من مسمار صدئ ، المكان يبدو كجرح لم يُعالج ، مفتوحاً ، متعفناً .
تمتم حازم لنفسه بينما يمشي على الأرض المحروقة
” كان هذا المكان الذي ظهرت فيه أول جثة ، قبل أن تبدأ سلسلة الخيط الأحمر إذاً “
لم تكن هناك أبواب ، الجدران سوداء متآكلة ، ومع ذلك كان هناك شيء …حي ، في إحدى الزوايا ، وجد باباً خشبياً صغيراً ، نصف مدفون تحت الأنقاض ، أزاح الأتربة وفتحه .
السلم المؤدي إلى القبو كان ما يزال سليماً كأن النار اختارت ألاّ تمسه ، هناك … في الأسفل كان البرد مختلفا ، برد طقسي ، برد ذكريات ، الجدران مغطاة برسومات أطفال شمس ..قلوب .. بيوت صغيرة… ثم في الزاوية ظهر رسم غريب ، وجه بلا عينين وخيط أحمر يخرج من فمه .
” أنت تبحث عن أشباح ؟”
كان الصوت مفاجئاً ، التفت حازم بسرعة ، شاهداً امرأة مسنة بملامح شاحبة ، تقف عند أول السلم ، قالت
” اسمي عائشة ، كنت مربية هنا قبل الحريق ، لم يتبقي غيري من الطاقم “
سألها حازم
” هل تعرفين طفلاً يُدعى رُقيان ؟ “
هزّت رأسها ثم ابتسمت ابتسامة غريبة
” لم نكن نناديه باسمه ، كن نقول الولد الذي لا يبكي .. رأى النار تلتهم الأجساد ، ولم يُصدر صوتاً ، جلس في الزاوية يرسم على الأرض ، وردة ..ثم خيطاً ..ثم دائرة “
سألها حازم بصوت خافت
” هل تؤمنين أنه هو من بدأ الحريق ؟ “
قالت بعد صمت طويل
” لا أعرف ..لكني أعلم أنه لم يحترق ، كأن النا رفضته “
في تلك الليلة … فتحت ملك ملفاً كان مغلقاً بخزنة الجريدة لسنوات ، ملف الحريق ، داخل الملف صورة قديمة ، صورة جماعية لأطفال الدار ، في الصف الأمامي طفل نحيل ، بشعر أسود وعينين واسعتين ، ينظر إلى الكاميرا …لكن انعكاسه في زجاج الصورة كان مختلفاً ، في الصورة كان يبتسم ، أما في الإنعكاس كان يبكي دماً.
وجدت ملك في الملف مستنداً مدفوناً ، بلاغ إهمال ضد موظفين الدار
قُدم قبل أيام من الحريق ، الإسم الموقّع على البلاغ كان ملك عبد المجيد ، تحت التدريب .
تجمدت أصابعها ، لقد نسيت ، أو أرادت أن تنسى ، كانت في ذلك الوقت صحفية متدربة ، اكتشفت انتهاكات ضد الأطفال ، كتبت تقريراً و أرسلته .. ثم طُلب منها أن تترك الأمر للجهات المعنية ، وبعدها بأيام احترق المكان و اختفى الطفل .
غرفة مضاءة بشمعة واحدة ، يجلس رُقيان يقرأ الورقة نفسها ، النسخة الأصلية من بلاغ ملك ، يده ترتجف ، عيناه لا تحملان غضباً …بل خيبة
” كأنهم نسوني …..”
قالها و هو يضع الورقة في النار
” لكنها … هي أول من خان “
ثم التفت إلى لوحة جديدة يجهزها ، صورة ملك ممددة ، خيط أحمر حول عنقها ، وفوقها جملة واحدة ” القربان التالي … هو الصحفية “
- سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(4)
- خاطرة :صورة وذكري
- سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(3)
- قصيدة : النسيان
- قصة : عقار الحياة