الفصل الثاني ” رسائل من اللاوعي “
الليل ليس صامتاً كما يتوهّم البشر ، بل يتنفس تنهيدة في ممر ضيق ، خطوات على سقف ، حفيف ستارة نسي أحدهم إغلاقها ، وفي كل نفس من أنفاسه هناك من يسمع .. من يراقب

كانت ملك تجلس في غرفتها ، الضوء خافت والصمت ثقيل كجثة هامدة ، أمامها الحائط مغطى بالصور والخرائط والملاحظات ، تربط الخيوط بينهما ، الأحمر منها تحديداً بشغف جريح .
” لا صدفة في هذا ، لا أحد يقتل بهذه الطريقة ، دون أن يؤمن بما يفعله “
قالتها بصوت منخفض ، كأنها تخشي أن يسمعها الحائط نفسه ، قامت إلى مكتبها ، فتحت درجاً سرياً ، و أخرجت منه مظروفاً كانت تخفيه حتى عن نفسها ، في الداخل .. رسالة ، بخط أنيق ، معتدل كأن كاتبه لم يرتجف وهو يكتب
“ ملك …
لا تبحثي كثيراً ، بعض الأبواب تفتح من الداخل فقط .. أخطاؤك ليست منسية ، وسأذكّرك بها ، وردةً وردة “
كان مع الرسالة خيط أحمر آخر ، أطول من السابق ، ومعلق به دبوس فضي صغير ، ليس تهديداً بل ..دعوة
في مقر الشرطة كان حازم يعيد قراءة تقارير الطب النفسي للضحايا ، خمسة من أصل سبعة كنّ يزرن عيادات مختلفة ، لكن اسماً واحداً ظهر مرتين ، د. صلاح الكرمي ، أخصائي التنويم الإيحائي ، فتح حازم الملف الخاص بالطبيب ، فوجد شيئاً غريباً ، العيادة أغلقت منذ عامين بعد حادث غامض ، والطبيب …اختفى .
” أين يذهب طبيب نفسي بعد اختفاء مرضاه ؟ “
قالها وهو ينهض متجهاً إلى الأرشيف ، حيث تُدفن الحقائق …
كانت ملك تراقب شريط فيديو قديم من إحدى كاميرات المترو ، ظهرت فيه الضحية الثالثة وهي تجلس على المقعد الخشبي ، ثم يقترب منها رجل يرتدي معطفاً أسود ، ظهره للكاميرا ، حركته هادئة ، جلس بجوارها ، لم يحدث شئ ، لا جدال ، لا صراخ ، لكن بعد دقيقتين ، وقفت الضحية و ذهبت معه .
” هي من اختارته “
همست ملك لنفسها ، و عيناها لا تفارقان الشاشة
في منزل صغير على أطراف المدينة ، دخل رجل إلى غرفة غارقة في الظلام ، أشعل شمعة واحدة ، وجلس أمام مرآة مستديرة ، كان يحدق في نفسه …طويلاً ثم قال
” أراهم … لا يصرخون ، فقط ينظرون و يغفرون “
ثم بدأ يقص خصلات من شعره ، و يجمعها في إناء زجاجي ، فوق الطاولة ورقة بيضاء كُتب عليها
” النقاء لا يتم إلا بعد الطاعة “
في نهاية اليوم اجتمع حازم و ملك في مكتب ضيق بالمبني الرئيسي ، كلاهما متعب ، منهك ، مطارد بأكثر من ظل ، قالت ملك
” هو لا يقتل .. بل يقدّمهم ، كأنهم قرابين ، يحضّرهم قبل الموت ، يغسلهم ..يهدّئهم ، إنه دقيق ، حازم ، مؤمن بشئ لا نفهمه “
رد و هو يدق أصابعه على المكتب
” و أنا لا أؤمن إلا بالدماء ..و سأجعلها تفضحه “
لكن في داخله كان يشعر بشئ يتحرك ، شئ قديم يشبه الذنب ، يشبه الفقد ، يشبه الطفلة التي فقدها قبل سبع سنوات .
في تلك الليلة تلقت ملك اتصالاً بلا صوت ، فقط نفس …طويل …منتظم ، ثم أغلق الخط ، بعد لحظات وصل إشعار جديد على بريدها الإلكتروني ” شاهدي ما لا يُرى “
رابط إلى فيديو خاص ، فتحته ، فرأت نفسها …نائمة على سرير أبيض ، تصوير من أعلى ، كاميرا كانت في غرفتها ، و في الزاوية ظهر طرف معطف أسود يغادر بهدوء …..
” الشاهد الذي لا يتكلم “
كانت الشوارع مبتلّة من مطر خفيف ، استمر لساعات دون أن يُصدر صوتاً ، كأن السماء تنزف بصمت .
وقف حازم أمام مبني قديم قرب حي ” الزهور “ حيث أُبلغ سكان الطابق الأرضي لعمارة سكنية عن صراخ يأتي من الخارج ، تبين لاحقاً أنه من طفل صغير كان مختبئاً خلف حاوية قمامة ، يرتجف بلا دموع ، كان عمره لا يتجاوز العاشرة ، عيناه واسعتان سوداوان ، فارغتان كأن شيئاً ما انكسر فيه قبل أن يتعلم النطق.
قال الشرطي
” وجدناه عند موقع الجريمة الأخيرة ، قرب الحديقة المهجورة ، كان ممسكاً بدفتر رسم مبللا ، ملطخاً بالتراب ، لكن محافظاً عليه بقوة ، كأن حياته تتعلق به ”
فتح حازم الدفتر ببطء ، بينما يجلس الطفل أمامه على الكرسي ، لا يتحرك …في الصفحات الأولى رسومات بريئة ، شجرة .. طائر .. بيت صغير ، لكن بعد الصفحة الرابعة تغير كل شيء امرأة نائمة على سرير ، شخص أسود بلا ملامح ، طويل الذراعين ، خيط أحمر يمتد من رأسه إلى قلب الضحية ، ثم رمز غريب دائري ، تتوسطه نقطة سوداء .
قال حازم بهدوء
” هل رأيت الرجل ؟ “
الطفل لم يجيب لكن يده ارتجفت ، ثم أشار إلى الرمز ، ثم إلى نفسه …
نُقل الطفل إلى دار رعاية قريبة تحت المراقبة ، بينما أعطى حازم نسخة من الرسوم إلى ملك ، جلست تتأملها طويلا ثم قالت
” الرسم ليس عشوائياً ، هذا الرمز يشبه رموز دوائر الطقوس في الشعائر القديمة ، استخدمه كهنة في حضارات متعددة … لكن تحديدا يذكّرني بنمط موجود في وثيقة عتيقة “
أخرجت من حقيبتها كتاباً قديماً متهالكاً ، كان بحوزتها منذ تحقيق قديم ، فتحت صفحة محددة ، و وضعت الرسمة بجوارها ، التشابه كان مرعباً ، الكتاب يتحدث عن ” طقس الانفصال”
و هو طقس قديم يُنفّذ عبر الغُسل و التطهير ، قبل فصل النفس عن الذنب ، ويتم فيه تقييد الضحية بخيط مقدس يُلف حول العنق أو المعصم .
قالت ملك
” الطفل لم يرَ القاتل فقط ، هو يعرف ماذا يفعل و لماذا “
سألها حازم
” هل هذا كتاب ديني ؟ “
هزت رأسها
” لا .. هو تجميع لطقوس محرّفة من عدة عقائد ، استخدمها مجانين على مر العصور ، بعضها انتهى و بعضها .. استيقظ “
في غرفة منعزلة ، جلس القاتل على الأرض ، كان يمسك صورة قديمة لطفلة ميتة ، مبللة ، ترتدي ثوباً أبيض ممزقاً ، حول رقبتها نفس الخيط الأحمر ، وهمس لنفسه
” كان يجب أن يسمعوا بكاءها ، كان يجب أن يدفنوها بكرامة ، لكني أنا …من دفنت الذنب “
ثم بدأ يغسل يديه بماء نظيف ويردد
” واحدة أخرى فقط ، واحدة فقط ، ثم ….سأسكت “
تلقى حازم تقريراً من الطب النفسي حول الطفل ، كتب الطبيب
” الطفل يُظهر علامات صدمة مركّبة ، لا يتحدث ، لكن رسوماته تتطور بدقة مخيفة ، يكرر رسم وجه امرأة مجهولة ، بعينين واسعتين و شعر مبلل ، والشيء الغريب .. أنه وقّع كل رسوماته باسم رُقيان ”
- سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(4)
- خاطرة :صورة وذكري
- سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(3)
- قصيدة : النسيان
- قصة : عقار الحياة