جالسه في تلك الغرفة المظلمة بمفردي أتذكر أحداث تلك الليلة المشؤومة، كانت مجرد ليلة أخذت مني أعز ما أملك، لقد فقدت كل شيء، حقيقة لقد فقدت كل شيء ، فقدت أمي، صحتي ، نفسي، الأشخاص الذين أحبهم.

لقد مر علي تلك الليلة أسبوعين تقريباً، لكنني مازلت أتذكر كل تفصيلة فيها، سواء كانت كبيرة ام صغيرة، يتردد ذلك المشهد البشع في عقلي دائماً، تساؤلات كثيرة بداخلي، لماذا فعل بي هذا، وهو يعلم أنني أحبه؟ لقد أخبرته بكل شيء مررت به، رغم ذلك لم يرحمني، إنني حقا أكرهه وبشدة، ذلك الذي كان كل حياتي، الأن لم يعد يعني لي شيء على الإطلاق.
حين أتذكر كل تلك الأحداث التي أوصلتني للحال الذي أنا عليه الأن تنتابني مشاعر الحزن وتجعلني عاجزة عن الفهم والإدراك والحركة في بعض الأحيان، يوم ولادتي ماتت أمي بعدما أنجبتني، كان أبي يحبني كثيراً، لذلك سماني أميرة، علي اسم جدتي، أنا علي قدر متوسط من الجمال، ولم أكن أرى نفسي جميلة، أمتلك عينان خضرواتان وبشرة بيضاء، وقوام يقف ما بين النحافة و السمنة، وشعر أسود مثل ظلام الليل.
تزوج أبي امرأة أخرى اسمها حنان عندما كان عمري عشر سنوات، لأن في اعتقاده أنها ستعتني بي مثل والدتي اللتي حرمت منها منذ صغري، كان ذلك تفكير أبي، لكن حنان تلك كانت عكس توقعاته تماماً، واحتراما لها سأقول عنها زوجة أبي، لكنها لا تستحق ذلك حقا ، كنت برغم صغر سني أقوم بالتنظيف وأعمال المنزل وهي تجلس أمام التلفاز لا تفعل شيء سوي سبي وإلقاء الأوامر علي للقيام بالأعمال المنزلية،
وعندما يأتي ابي تصبح مثل الملاك البريء، ثم تذهب لتخبر أبي بأشياء كاذبة، مثل أنني لا أدرس، وألعب كثيراً، لكنني حقا لم أفعل ذلك، فبرغم أنها تجعلني أقوم بالأعمال المنزلية، لم أهمل دراستي، وكنت من المتفوقين في المدرسة، وكان أبي يصدقها لكي يرضيها فقط لا أكثر، لكنه يعلم أنني متفوقة ولست مثل الفتيات الأخريات الذين هم في سني، لكنه أيضاً كان يوبخني بناءً علي كلامها، وكنت مرغمة على أن أصمت، ولهذا التزمت الصمت طيلة حياتي، حتى وأنا أرى كل شيء أحبه يسلب مني، أشعر بالاستسلام والعجز،
لكنني تعودت علي هذا الوضع، ولكن كلما زاد كذب زوجه أبي كلما زاد الحقد في قلبي تجاهها أكثر وأكثر، حتى وصل الأمر بها لأ تقوم بحرق جسدي بالكي، بعدم تسبني و تتنمر علي ملابسي وعلى أمي ، إضافة إلى أنها كانت تأخذ الملابس التي يشتريها أبي لي وتعطيها إلى ابنه أختها لمار التي في نفس عمري تقريبا وتعطيني انا ملابس قديمة، و كان أبي يراني بتلك الملابس ولا يعطي أي رد فعل، لأن زوجه أبي قالت له أنني أعطي ملابسي لابنه أختها كنوع من المحبة فلا يقوم بالرد أو فعل أي شيء ، هكذا كان يفعل أبي دائماً، فلم يمانع أو يعارض زوجته على الإطلاق، لكن ظلم زوجة أبي تطور كثيراً،
لدرجة أنها كانت تريد تزويجي لابن صديقة لها يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وكانت قد رأتني عندما كانت في بيتنا ذات يوم ودار بينها وبين زوجهة أبي حوار ثم انتهي بمغادرتها وهي مبتسمة، كنت في السابعه عشر من عمري لكن لم يوافق أبي علي ذلك، وتشاجر معها للمرة الأولى، وكنت أصغي إلى شجارهم من وراء باب الغرفة لأنه كان مغلقاُ، وما أسعدني وقتها هو ما قاله أبي لها.
أنا لن أضيع مستقبل ابنتي من أجل رغبة امرأة غبية مثلك، أنا أعرف مصلحة ابنتي أكثر من أي أحد، هل ترضى أن تتزوج سلمى عندما تكون بعمرها؟
لم ترد وإنما صمتت، سيسأل البعض منكم من تكون سلمي؟ إنها أختي من الأب فقط، كان عمرها ست سنوات، ولم أكن أتعامل معها كثيراً لأن زوجه أبي كانت تمنعها عن الكلام معي.
ومع جدال أبي وزوجته صمتت قليلاً، ثم قالت له، بأن الذي بمثل عمري قد تزوج ومعه أطفال بعمر سلمي، وتحدث معها أبي بكل برود.
اسمعتي ما قلته، لن أزوج ابنتي إلا عندما تكمل دراستها، لن أضيع مستقبل ابنتي، من أجل أن ترضي صديقتك، هل فهمتي أم لا، لأنني لا أحب تكرار كلامي مرتين، ستظل ابنتي تدرس إلى أن تصبح طبيبة كبيرة، ثم بعدها ستختار هي من تتزوج.
كنت أصغي إلى ذلك الكلام وأنا أشعر ببعض من الحنان الذي حرمت منه، وقتها كنت ف المدرسة الثانوية المشتركة، في الصف الثاني الثانوي بالتحديد، وكان عندي صديقة اسمها ايات، كانت بالنسبة لي مثل أختي تماماً،
أشكو لها وجعي وهمي وضعفي، كانت تسمعني وتدعمني، وكنت أحبها كثيراً، لم اكن أهتم إن تخاصمت مع أحد من رفاقي، لكنني لا استطيع تحمل أن تخاصمني ايات، كنت احبها كثيراً، لكنني كنت حمقاء كعادتي، لأنني عندما عرفتها على حقيقتها وجدتها بشعة حقا، إنها أكثر انسان مقزز عرفته في حياتي، فلم أكن أتوقع الخيانة منها بالذات، لكن ما بيدي حيلة، وليس في استطاعتي أن أغير الزمن، ولا أن أغرس في قلبها حبا كحبي لها.
ذات يوم كنت ذاهبة إلى المدرسة، وأنا أمشي في الطريق متوجهة اليها، لاحظت سيارة تقف بجانب المدرسة، سيارة فاخرة، خرج منها شاب وسيم، ذو عينين زرقاوين وشعر مائل إلى اللون الأحمر قليلا، كان وسيما بشكل يخطف الأنظار، دخلت من بوابة المدرسة وأنا مارة بجانبه،
لكن لم أعره اهتماما، لأنه وسيم، وبالطبع لن يترك كل الفتيات وينظر لي أنا، بحثت عن آيات بعيني فلم أراها، كنت أظن بأنها تنتظرني مثل كل مرة في الطابق السفلي في ممر المدرسة، لكنها لم تكن هناك، لهذا صعدت الي الطابق الثاني، حيث فصلي، ولم أجدها، قلقت عليها لأنها كانت أحيانآ لا تأتي إلى المدرسة بسبب أنها تتشاجر مع أمها، لأنها لاتريدها أن تذهب الي المدرسة، ولم تكن موافقة أساساً علي دخولها الثانوية، فكانت أحيانآ تمنعها من القدوم، وعندما لا تكون ايات موجودة أشعر بالملل والحزن، لهذا فقد وضعت حقيبتي في المكتب الخاص بي، ثم نزلت إلى الطابق السفلي لكي أبحث عنها،لكنني اصطدمت بشخص ووقعت علي الأرض، ثم فتحت عيني لأري من الذي اصطدمت به، فوجدته ذلك الشاب يمد لي يده لكي أنهض فأمسكت بيده ثم نزعت يدي عنه، ونهضت وأنا أعتذر له بينما أنفض الغبار من على ملابسي، لكنه قال لي.
لا عليك، بالمناسبة أنا محمد، وأنتي؟
أميرة، هل أنت جديد هنا؟
أجل أنا جديد هنا.
مرحبا بك، طابق الأولاد في الدور الثالث.
قلتها ثم ذهبت وأنا مبتسمة، لم أصدق ما حدث، لقد تحدثت معه ، كنت قد فقدت الأمل في أن أنال إعجابه، لأن هيئته توحي بأنه غني وليس من مستواي، إنني فتاة عادية، لا تملك سوي بعض الأهداف والأحلام التي أريد تحقيقها، لهذا فقد نفضت تلك الأحلام الوردية من رأسي، وأنا أردد في نفسي، ” سأركز علي حلمي ولن أهتم لهذه التفاهات، فأنا مازلت صغيرة”.
كنت في الطريق إلى فصلي فوجدت آيات علي السلم، احتضنتها ثم قلت لها.
لقد اشتقت لك، أين كنتي؟
كنت في الطريق إلى المدرسة ابحث عنك.
حقا؟ وأنا أيضاً.
ضحكنا سوياً وقالت.
لقد رأيتك وأنتي تصطدمين بذلك الفتي الوسيم، هل اصطدمت به عمداً؟
أخبرتها بأنني لم أكن أقصد ذلك، واعتذرت منه، لذلك قالت لي.
حسنا أيتها المحظوظة، هيا سنتأخر علي الصف.
كنت قد شعرت ببعض من الغيره في كلامها، لكن لم أعر الأمر أي اهتمام كما قلت، وذلك بسبب فرق الطبقات بيني وبينه.
مرت الأيام والسنوات وأنا أطمح لأن أصبح طبيبة وأرفع رأس والدي أمام الناس، مرت الأيام ثم تخرجت من الثانويه بمعدل 96 بالمئه، وتحقق الحلم بالتحاقي بكليه الطب وتخصصت في قسم الجراحة وعملت بمستشفي حكومية، وتقدم الكثير لخطبتي بما أنني جميلة ومتعلمة ولدي ما يجعلني حلم لأي شاب، لم أكن أرفض، وإنما أبي هو من كان يقوم بالرفض،
لأنه كان يرغب في أن يزوجني لشخص متعلم مثقف محترم يحبني وذو أخلاق، واستمر الأمر هكذا، إلى أن كنت في المستشفي ذات يوم، أقوم بمتابعة مريضة، سمعت صوت هاتفي ، وكان المتصل والدي، أجبته على الفور فأخبرني بأن هناك من جاء لخطبتي، وأنه قد وافق عليه لأنه طبيب ومحترم مثلما كان يريد، وقال لي أن أترك ما بيدي وأن أعود إلى المنزل على الفور لأن العريس ينتظرني بالفعل، ولأنني كنت قد أنهيت عملي، فقد ذهبت الي المنزل علي عجل، وأنا متلهفة لأري ذلك الشخص الذي دفع أبي لموافقة، ولقد كانت المفاجأة حقاً، إنه محمد.
هل أحلم، أم ماذا؟ إنه هو بالفعل، جالس مع أبي في غرفة الضيوف، دخلت لأسلم علي أمه وأبيه، ثم جلست بجوار أبي بخجل، بينما عينيه مثبتته علي، ينظر لي ويبتسم، وأنا وجنتاي متوردتان من الخجل، تحدثنا قليلا في حضورهم ثم غادر هو وعائلته بعد أن أعطي موعداً مع والدي لتحديد ميعاد الخطوبة.
بعد أن غادر هو وعائلته اتصلت بصديقتي آيات لأخبرها بما حدث، لكن العجيب أن كلماتها كانت جافة بعض الشيء.
هل تريدين شيئا يا عزيزتي؟
أجل خطوبتي ستكون قريبا، هل تعرفين من جاء لخطبتي؟
من؟
تذكرين ذلك الشاب الوسيم من المدرسة الثانوية؟
أجل، محمد!!
تعجبت من الأمر وسألتها من أين عرفت اسمه، فقالت بأنها تذكر أن بعض الفتيات عندما كنا في المدرسة أخبروها عنه، وكعادتي تخطيت الأمر وأخبرتها بأنها أختي وليست صديقتي، ويجب عليها أن تكون معي في هذا اليوم فقالت بصوت مخنوق.
أجل أجل، سأكون معك، سأغلق الأن عزيزتي ثم أعود للإتصال بك لاحقا، لأن أمامي عمل كثير الأن، وداعًا.
قالتها ثم أغلقت الهاتف بسرعة، كانت هناك وساوس في رأسي، هل هي تكرهني أم ماذا؟ أم إنها لا تتمني لي السعادة؟ أم إنها تحبه ولم تخبرني بذلك؟
نفضت تلك الأفكار من رأسي لأنها صديقة عمري، بالطبع لن تفعل ذلك أبداً، مر الوقت وجاء محمد إلى البيت مرة أخرى لتحديد ميعاد الخطوبة، وقررنا أن الخطوبة ستكون يوم الجمعة القادمة، وبالفعل تم الأمر وأصبح محمد خطيبي، تعلقنا ببعضنا كثيراً، لكنني اكتشفت مؤخراً أنه كان يوهمني بأنه تعلق بي مثلما تعلقت به.
مرت الايام ونحن نجهز لعقد القران، وكنت في قمة سعادتي، حقا سأتزوج من أحب، إلى أن أتت تلك الليلة المشئومة التي قلبت كل شيء رأسا علي عقب.
كنت مع محمد في السيارة ذلك اليوم ذاهبين لحجز قاعة الزفاف، كنت مبهورة بذوقه الجميل والفريد، ثم أتاه اتصال على الهاتف، فأجاب وأخبر من يحدثه بأنه قادم على الفور ثم أغلق، سألته عما حدث فاعتذر لي وقال بأنه يمكننا حجز القاعة في أي يوم أخر، لأن هناك حاله طارئة بالمستشفى ويجب أن يذهب على الفور.
عرضت عليه أن أعود إلى المنزل بالتاكسي فأصر على أن يوصلني الي البيت ثم ذهب، لكنني تذكرت أني نسيت مفتاح البيت في شقة عًرسنا والتي كنت أتفقدها معه في ذات اليوم قبل الذهاب لحجز القاعة، وبما أن معي مفتاحها فسأذهب لأحصل على مفتاح منزلنا لأن الجميع خارج البيت ولأن والدي أخبرني بأنه سيتأخر ، اتصلت علي هاتف محمد لكنه لم يجيب، اخذت تاكسي ثم ذهبت لأحصل على المفتاح،
كانت سيارة محمد بالقرب من العمارة، لكنني لم أتأكد إن كانت هي أم لا، لأنني كنت في عجلة من أمري، وحين دخلت إلى الشقة وحصلت على المفتاح سمعت صوتاً غريباً، كان صوت أنثى تصرخ، ويبدو هذا الصوت مألوفاً لي، إنه صوت آيات، قادم من الداخل، وكان الباب شبه مغلق، دفعت الباب برفق فوجدت ذلك المشهد البشع الذي تمنيت أنني لم أراه، وتمنيت أن ينتهي عمري قبل أن أراه، آيات في حضن محمد، شهقت من الصدمة فعلموا بوجودي، استدرت لأخرج فلحق بي ثم أمسك بيدي.
أميرة، سأشرح لك كل شيء.
نزعت يدي عنه ثم نظرت له ببرود وألقيت الخاتم في وجهه.
هذه هي الحالة الطارئة يا دكتور؟ علي العموم لن أتزوج خائناً مثلك، لقد انتهي كل شيء بيننا؛ وانت يا أختي، لم اكن أتوقع منك ذلك أبدأ، صدقًا لا أعرف ماذا أقول؟
والمفاجأة أنها أجابت بكل غرور أظهر حقدها وكراهيتها لي قائلة .
أجل أنا أحبه أكثر منك، لا أريدك أن تكوني صديقتي، كنت اطمح كثيراً لإفساد حياتك، لأنك كنت محبوبة ومتفوقة أكثر مني ، أنا أكرهك، فأنت لا تعني لي شيئا، لم تكوني يوما مثل أختي، ولم أحبك من الأساس، وإنما كل همي كان أن أجعل الجميع يكرهك فقط.
نظرت لهم بقرف ثم أجبت ببرود.
حسناً، شكراً لكم، وداعًا.
قلتها ثم ذهبت إلى البيت والحزن يملأ قلبي، فتحت الباب ثم دخلت غرفتي وأغلقت الباب، لم أرغب في أن أرى احدا، لا أريد أي شيئ، لقد ضاع مني كل شيء؛ جاء محمد إلى البيت في اليوم التالي، وتم فسخ خطبتي، سأل أبي عن السبب، لأنه لم يكن لديه أي شك في محمد طيلة فترة خطبتنا، فأخبرته بأن كل شيء قسمة ونصيب، وأنه لا نصيب لي معه،
بعد ذلك اليوم لم أخرج من غرفتي، وإنما ظللت ابكي وابكي على كل شيء حدث معي، لماذا فعلت ذلك، كانت هناك مشاعر كثيرة بداخلي لم أعرف ما هي وإنما كنت أعيش في خوف و قلق و رعب، و توتر و حزن، لم أكن أعرف ما بي، أشعر أنني عاجزة، لا أكل ولا أشرب، لا أنام،
وإنما يتردد ذلك المشهد في راسي، وكلما اتذكره أبكي ولا ينقطع بكائي، لم يهتم أحد لحالتي، إنني وحيدة تماما، لماذا أنا دائماً بمفردي؟ لماذا يكرهني الجميع مع أنني لم افعل لهم شيء سيئ؟ في نفس الوقت أريد أن أخبره بأنني سعيدة جداً لأنني أصبحت اكرهه كما أكرهها ولم أعد أهتم لأمر أحد ، لكنني حزينة، لأنني لم أرغب في أن أكره أحد، مازال الحزن يعتصر قلبي كلما تذكرت ذلك اليوم، وكلما هممت بالخروج والعودة إلى الحياة من جديد، أجدني أعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى .
- سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(4)
- خاطرة :صورة وذكري
- سلسلة قصصية : الخيط الأحمر(3)
- قصيدة : النسيان
- قصة : عقار الحياة